كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة الجمهور: يسبح بكسر الباء وفاعله رجال، مبينة أن الفاعل المحذوف في قراءة ابن عامر، وشعبة، عن عاصم: يسبح بفتح الباء مبنيًا للمفعول لحذف الفاعل هو رجال كما لا يخفى. والآية على هذه القراءة حذف فيها الفاعل ليسبح، وحذف أيضًا الفعل الرافع للفاعل الذي هو رجال على حد قوله في الخلاصة:
ويرفع الفاعل فعل أضمرا ** كمثل زيد في جواب من قرا

ونظير ذلك في كلام العرب قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره:
ليُبْكَ يَزيد ضارعٌ لخصومة ** ومُخْتَبطٌ مما تطيح الطوائح

فقوله: ليُبكَ يزيد بضم الياء المثناة التحتية، وفتح الكاف مبنيًا للمفعول، فكأنه قيل ومن يبكيه؟ فقال: يبكيه ضارع لخصومة إلخ. وقراءة ابن عامر، وشعبة هنا كقراءة ابن كثير: {كَذَلِكَ يوحي إلَيْكَ} [الشورى: 3] بفتح الحاء مبنيًا للمفعول فقوله: الله فاعل يوحي المحذوفة، ووصفة تعالى لهؤلاء الذين يسبِّحون له بالغُدو والآصال، بكونهم لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة على سبيل مدحهم، والثناء عليهم. يدلّ على أن تلك الصفات لا ينبغي التساهل فيها بحال، لأن ثناء الله على المتصف بها يدل على أنّ من أخلّ بها يستحق الذمّ الذي هو ضد الثناء، ويوضح ذلك أن الله نهى عن الإخلال بها نهيًا جازمًا في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون} [المنافقون: 9] وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى: اعلم أنه على قراءة ابن عامر، وشعبة: يسبَّح بفتح الباء يحسن الوقف على قوله: بالآصال، وأما على قراءة الجمهور يسبَّح بالكسر، فلا ينبغي الوقف على قوله: بالآصال، لأن فاعل يسبح رجال، والوقف دون الفاعل لا ينبغي كما لا يخفى.
المسألة الثانية: اعلم أن الضمير المؤنث في قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} راجع إلى المساجد العبّر عنها بالبيوت في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [النور: 36] والتحقيق: أن البيوت المذكورة، هي المساجد.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن تخصيصه من يسبح له فيها بالرجال في قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} يدل بمفهومه على أن النساء يسبحن له في بيوتهن لا في المساجد، وقد يظهر للناظر أن مفهوم قوله: رجال مفهوم لقب، والتحقيق عند الأصوليين أنه لا يحتج به.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا شك أن مفهوم لفظ الرجال، مفهوم لقب بالنظر إلى مجرَّد لفظه، وأن مفهوم اللقب ليس بحجة على التحقيق، كما أوضحناه في غير هذا الموضع، ولكن مفهوم الرجال هنا معتبر، وليس مفهوم لقب على التحقيق، وذلك لأن لفظ الرجال، وإن كان بالنظر إلى مجرّده اسم جنس جامد وهو لقب بلا نزاع، فإنه يستلزم من صفات الذكورة ما هو مناسب لإناطة الحكم به، والفرق بينه وبين النساء، لأنّ الرجال لا تخشى منهم الفتنة، وليسوا بعورة خلاف النساء، ومعلوم أو وصف الذكورة وصف صالح لإناطة الحكم به الذي هو التسبيح في المساجد، والخروج إليها دون وصف الأنوثة.
والحاصل: أن لفظ الرجال في الآية، وإن كان في الاصطلاح لقبًا فإنما يشتمل عليه من أوصاف الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث، يقتضي اعتبار مفهوم المخالفة في لفظ رجال، فهو في الحقيقة مفهوم صفة لا مفهوم لقب، لأن لفظ الرجال مستلزم لأوصاف صالحة لإناطة الحكم به، والفرق في ذلك بين الرجال والنساء كما لا يخفى.
المسألة الثالثة: إذا علمت أن التحقيق أن مفهوم قوله: رجال مفهوم صفة باعتبار ما يستلزمه من صفات الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث، في حكم الخروج إلى المساجد لا مفهوم لقب، وأن مفهوم الصفة معتبر عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة.
فاعلم أن مفهوم قوله هنا: رجال فيه إجمال، لأنّ غاية ما يفهم منه أن النساء لسن كالرجال في الخروج للمساجد، وق قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان القرآني إذا كان غير واف بالمقصود من تمام البيان. فإنّا نتمم البيان من السنة من حيث إنها تفسير للمبين باسم الفاعل، وتقدّمت أمثلة لذلك.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن السنة النبوية بينت مفهوم المخالفة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: رجال، فبينت أن المفهوم المذكور معتبر، وأن النساء لسن كالرجال في حكم الخروج إلى المساجد، وأوضحت أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لهن من الخروج إلى المساجد والصلاة فيها في الجماعة، بخلاف الرجال، وبينت أيضًا أنهن يجوز لهن الخروج إلى المساجد بشروط سيأتي إيضاحها إن شاء الله تعالى، وأنهن إذا استأذن أزواجهن في الخروج إلى المساجد فهم مأمورون شرعًا بالإذن لهن في ذلك مع التزام الشروط المذكورة.
أما أمر أزواجهن: بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد إذا طلبن ذلك فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب النكاح: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا استأْذَنَت امرَرأةُ أحَدِكم إلى المسجد فلا يمنَعْها» قال البخاري أيضًا في صحيحه في كتاب الصلاة: باب استذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد: حدثنا مُسَّدد، حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن مَعْمَر عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا استأذنت امرأةُ أحدِكُم فلا يَمْنَعْها» وقال البخاري رحمه الله في صحيحه أيضًا، حدثنا عُبيد الله بن موسى، عن حَنْظلة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عُمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجدِ فأذنوا لهنَّ» تابعته شُعبة عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني عمرو الناقد، وزُهير بن حرب جميعًا عن ابن عُيينة. قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري. سمع سالمًا يحدث عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها» وفي لفظ عند مسلم، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تمنعوا نساءكم المساجِد إذا استأذنَّكم إليها» وفي لفظ عند مسلم أيضًا، عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» وفي لفظ له عنه أيضًا: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا استأذنكم إلى المسجد فأذنوا لهن» وفي لفظ له عنه أيضًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل» وفي رواية له عنه أيضًا: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد» وفي لفظه عنه أيضًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم» وفي رواية «إذا استأذنوكم» قال النووي في شرح مسلم: وهو صحيح وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا الذي ذكرناه عن الشيخين بروايات متعددة، أخرجه أيضًا غيرهما وهو صريح في أنّ أزواج النساء مأمورون على لسانه صلى الله عليه وسلم بالإذن لهنّ في الخروج إلى المساجد، إذا طلبن ذلك، ومنهيُّون عن منعهن من الخروج إليها.
وذكر بعض أهل العلم أن العلم أن أمر الأزواج بالإذن لهنّ في الروايات المذكورة ليس للإيجاب، وإنما هو للندب، وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن منعهن. قالوا: هو لكراهة التنزيه لا للتحريم.
قال ابن حجر في فتح الباري: وفيه إشارة إلى أنّ الإذن المذكور لغير الوجوب، لأنه لو كان واجبًا لانتفى معنى الاستئذان، لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيّرًا في الإجابة أو الرد.
وقال النووي في شرح المهذب: فإن منعها لم يحرِّم عليه هذا مذهبنا، قال البيهقي: وبه قال عامة العلماء. ويجاب عن حديث «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» بأنه نهي تنزيه، لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه لفضيلة اهـ.
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في هذه المسألة: أن الزوج إذا استأذنته امرأته في الخروج إلى المسجد، وكانت غير متطيِّبة، ولا متلبيسة بشيء يستوجب الفتنة مما سيأتي إيضاحه إن شاء الله، أنه يجب عليه الإذن لها، ويحرم عليه منعها للنهي الصريح منه صلى الله عليه وسلم عن منعها من ذلك، وللأمر الصريح بالإذن لها وصيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب، كما أوضحناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك، وصيغة النهي كذلك تقتضي التحريم، وقد قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 36] وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» إلى غير ذلك من الأدلة، كما قدمنا. وقول ابن حجر: إن الإذن لا يتحقق إلا إذا كان المستأذن مخيرًا في الإجابة، والرد غير مسلم، إذ لا مانع عقلًا، ولا شرعًا ولا عادة من أن يوجب الله عيه الإذن لامرأته في الخروج إلى المسجد من غير تخيير، فإيجاب الإذن لا مانع منه. وكذلك تحريم المنع، وقد دلّ النص الصريح على إيجابه فلا وجه لردّه بأمر محتمل كما ترى. وقول النووي: لأن حقّ الزوج ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه للفضيلة لا يصلح، لأن يرد به النص الصريح منه صلى الله عليه وسلم، فأمره صلى الله عليه وسلم الزوج بالإذن لها يلزمه ذلك، ويوجبه عليه، فلا يعارض بما ذكره النووي كما ترى. وما ذكره النووي عن البيهقي: من أن عدم الوجوب قال به عامة العلماء غير مسلم أيضًا، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه لما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي ذكرنا عنه في أمر منكرًا عليه، مخالفته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك دليل واضح على اعتقاده وجوب امتثال ذلك الأمر بالإذن لهن.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني حَرْمَلة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها» فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن، فأقبل عليه عبد الله فسبَّه سبًا سيئًا ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: والله لنمنعهن، وفي لفظ عند مسلم: فَزَبره ابن عمر قال: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لا ندعهن. وفي لفظ لمسلم أيضًا: فضرب في صدره.
واعلم أن ابن عبد الله بن عمر الذي زعم أنه لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإذن للنساء إلى المساجد جاء في صحيح مسلم أنه بلال بن عبد الله بن عمر.
وفي رواية عند مسلم: أنه واقد بن عبد الله بن عمر: والحقّ تعدد ذلك فقد قاله كل من بلال، وواقد ابني عبد الله بن عمر، وقد أنكر عمر على كلّ منهما. كما جاءت به الروايات الصحيحة عن المسلم وغيره، فكون ابن عمر رضي الله عنهما أقبل على ابنه بلال وسبَّه سبَّا وقال منكرًا عليه، أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لنمنعُهنّ: فيه دليل واضح أنّ ابن عمر يرى لزوم الإذن لهنّ، وأنّ منعهن لا يجوز، ولو كان يراه جائزًا ما شدّد النكير عليه ابنيه كما لا يخفى.
وقال النووي في شرح مسلم: قوله: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبَّا سيئًا. وفي رواية فزبره. وفي رواية: فضرب في صدره، فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه.
قال مقيّده عفا الله وغفر له: وكلام النووي هذا الذي رأيت اعتراف منه بأن مذهبه وهو مذهب الشافعي ومن قال بقوله، كما نقل عن البيهقي، أنه قول عامة العلماء، أن جميع القائلين بذلك مستحقُّون للتعزير، معترضون على السنة، معارضون لها برأيهم، والعجب منه كيف يقرّ بأن بلال بن عبد الله بن عمر مستحق للتعزير لاعتراضه على السنة، ومعارضته لها برأيه، مع أن مذهبه الذي ينصره وينقل أنه قول عامة العلماء عن البيهقي هو بعينه قول بلال بن عبد الله بن عمر الذي صرح هو بأنه يستحق به التعزير، وأنّه اعتراض على السنة ومعارضة لها بالرأي. وقال النووي: قوله: فزبره. أي نهره. وقال ابن حجر في فتح الباري: ففي رواية بلال عند مسلم، فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبَّا شديدًا ما سمعتُه سبه مثله قط، وفسر عبد الله بن هُبيرة في رواية الطبراني السبّ المذكور باللّعن ثلاث مرات وفي رواية زائدة عن الأعمش فانتهره وقال: أفٍّ لك.